الصراع في البحر الأحمر: المجابَهة غير الدولتية مع الغرب
ورد كاسوجة –
المرحلة الحالية من الحرب لا تشهد فحسب تصعيداً جيوسياسياً كبيراً، على خلفية امتداد الصراع إلى الإقليم بأشكال مختلفة، بل ثمّة تقاطعات تحدث بين الصراعين الجيوسياسي والعسكري ونظيرِهما الاقتصادي. وهذه التقاطعات تحصل عادةً في الحروب بين الدول الرأسمالية أو القاريّة، حيث يلعب حجم الاقتصاد دوراً في تعطيل سلاسل الإمداد أو التوريد العالمية، كما نرى في الحرب الأوكرانية، أو يتسبب صراع كبير بأزمة اقتصادية عالمية، كما حصل في الحروب العالمية كون الاقتصادات الرأسمالية كانت طرفاً رئيسياً في الحرب.
في الحالتين، يكون الثقل الاقتصادي للدول المنخرطة في الحرب هو العامل الذي يضفي تعقيداً إضافياً على الصراع، بحيث يصبح الصراع الجيوسياسي والعسكري صراعاً اقتصادياً بالضرورة. لكن ذلك لا ينسحب على الدول أو القوى التي يكون حجم اقتصاداتها أصغر، إذ تبقى الحرب في هذه الحالة ضمن إطار الاشتباك العسكري أو الجيوسياسي المباشر، ولا يتحول الصراع الى تهديد حقيقي لأيٍّ من القوى الجيوسياسية الكبرى، حتى التي تقع مصالحها التجارية أو الرأسمالية على تخوم الصراع.
طبيعة الحرب الحالية
في حالة الحرب الحالية بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، يقع الصراع في منزلة بين المنزلتين. فهي ليست من النوع الذي ينحصر تأثيره الجيوسياسي أو العسكري، في المحيط الإقليمي المباشر فحسب، وذلك نظراً الى المحمول الرمزي الهائل للقضية الفلسطينية، والتعقيد الذي قام بفعل تطوّر الصراع وانضمام قوى ودول جديدة إليه. وهو ما يضعها في خانة أقرب إلى الحروب الإقليمية الكبيرة، منها إلى تلك التي يقتصر تأثيرها على المحيط الإقليمي المباشر. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن مقارنتها بالحروب التي تكون الاقتصادات الرأسمالية أو القارّية جزءاً منها. أي كما يحدث منذ سنتين في أوكرانيا حيث الصراع بالوكالة مع دولة قارّية كبرى مثل روسيا قاد ليس فقط إلى أزمة جيوسياسية غير مسبوقة بينها وبين الغرب، بل إلى أزمة اقتصادية لم يعرف العالم مثيلاً لها منذ الكساد الكبير في عام 1929. هذا لا ينفي عن الحرب في غزّة امتدادها الدولي، بل يضعها في إطار جيوسياسي مختلف، كون البقعة الجغرافية أضيق، وقوّة التدمير، مع كلّ وحشية إسرائيل غير فاعلة إلا في مواجهة المدنيين. المقارنة بين الحربين بهذا المعنى تعطي أفضلية للجانب الأخلاقي الذي يَظهَر بشكل أوضح في غزّة، حيث المجابهة مع الإبادة، سواء عبر القتال الذي تخوضه المقاومة مع كلّ جبهات الإسناد في الإقليم، أو عبر فعل التضامن معها عالمياً، والذي أفضى إلى المسار الذي بدأ يتشكّل الآن في لاهاي لمقاضاة إسرائيل عالمياً تمهيداً لتجريمها وتحميلها المسؤولية الكاملة عن الإبادة الحاصلة في غزّة.
كلفة الإسناد عبر المواجهة البحرية
انتقال الصراع عبر الإطار الخاصّ بمحكمة العدل الدولية إلى الجنوب العالمي، ممثلاً بدولة بجنوب إفريقيا ومنه إلى العالم برمّته، أضفى على المواجهة بُعداً قانونياً لن يكون بمستطاع المسارات الأخرى من الصراع بلوغه بالطريقة نفسها. النضال القانوني عبر هذا المسار يختلف بهذا المعنى، الذي يخوضه الحوثيون في البحر الأحمر وخليج عدن بغية عَكْس الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزّة، بحيث يصبح سلاحاً أو أداة في مواجهتها هي أيضاً. اختلاف الأدوات هنا ينعكس على “المشروعية السياسية” التي تبدو بالمتناول أكثر في حالة المحكمة الدولية لأنها نتاج حالة إجماع بين الدول الموافقة على بروتوكولها، حتى تلك الغربية منها. هذا لا يجعل فاعليتها أكبر بالضرورة، غير أنّه يسهّل تحصيل الحقوق عبرها، بالمقارنة مع المسارات الأخرى للمواجهة التي لا تحظى “بإجماع دولي” أو “بشرعية قانونية” على المستوى العالمي.
والحال أنّ طريق “أنصار الله” يقع في الإطار الثاني، ليس فقط لأنه أكثر وعورة بكثير، بل لأنّ الأداة التي يستخدمها التنظيم غير الدولتي، تبدو كأنها حكرٌ على الغرب الجيوسياسي. إلى درجة أنها حين تُستخدم ضدّ كيان وظيفي ينتمي إلى العمق الغربي مثل إسرائيل تُعزَل تماماً، و يبدأ التحشيد في مواجهتها على قاعدة أنها فعل من أفعال “القرصنة” أو “المروق”.
منهجية تشكيل التحالف الغربي
أوّل ما يفعله الغرب هنا في مواجهة من يريد قَلْب نظام الحصار والعقوبات، هو نزع الشرعية عن الآلية المُتّبعة لذلك. وهذا يحصل عبر إنشاء تحالفات عابرة للإقليم والعالم، بحيث يبدو حراك الخصم المُستهدَف، ليس تعبيراً عن أقلية إقليمية فحسب، بل متعارضاً مع مصلحة “الغالبية العالمية” التي يقرر الغرب تشكّلها. لكن التحوّلات الجيوسياسية في الإقليم وغرب آسيا عموماً، المتعارِضة غالباً مع مصلحة الولايات المتحدة، أفضت إلى حلول الفاعلين غير الدولتيين، مثل “أنصار الله” في اليمن وحركات المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان مكان الدول التي كانت تقود المعارضة الجيوسياسية للغرب.
وقاد ذلك إلى تغيير في استراتيجية الغرب في مواجهة هذه القوى الصاعدة، حيث لم يعد ممكناً بالنسبة إليه التكهّن بسلوك القوى والتنظيمات التي لا تتبع منهج الدول في التعامل مع الأزمات في الاقليم.
سياق التصعيد في البحر الأحمر
الأزمة الحالية لم تبدأ مع إعلان “أنصار الله” نيّته احتجاز السفن الإسرائيلية أو المملوكة لإسرائيليين، لدى مرورها في البحر الأحمر أو خليج عدن، بل ظهرت إلى العلن قبل ذلك بقليل، مع بروز جبهة الإسناد في البحر الأحمر متمثلةً في الصواريخ الباليستية والمسيّرات التي كانت تستهدف ميناء إيلات والعمق الصهيوني عموماً، رداً على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة. ظهور موقف متقدّم إلى هذا الحدّ في منطقة حيوية بالنسبة إلى الغرب، جيوسياسياً واقتصادياً، كان بمثابة مؤشّر إلى خطورة التصعيد الذي سيحصل في هذه المنطقة، إن لم يُصر إلى وقف العدوان الصهيوني على غزّة. عدم التجاوب مع إنذارات “أنصار الله” المتكرّرة قاد إلى الخطوة التالية المتمثّلة في احتجاز السفن التجارية المملوكة لإسرائيليين، جزئياً أو كلّياً. التصعيد الجيوسياسي هنا اتخذ مع هذا التحوّل منحى اقتصادياً، مع تزايد قدرة الحركة على شلّ حركة التجارة من الكيان وإليه، إلى درجة بدأت تهدّد بالتأثير حتى على حركة التجارة العالمية عبر باب المندب. “الردّ” على ذلك، غربياً، لم يقتصر على تشكيل تحالف “حماية الازدهار”، بقيادة الولايات المتحدة، بل تجاوَزَه إلى اتخاذ واشنطن ولندن قراراً بشنّ ضربات عسكرية على اليمن، بعيداً عن الإطار الخاصّ بالتحالف. هذا التزايُد في وتيرة التصعيد لم يثنِ “أنصار الله” عن مسار احتجاز السفن الإسرائيلية، لا بل توسَّعَ الردّ ليشمل استهداف السفن الحربية، الأميركية والبريطانية، رداً على عدوان الدولتين العسكري على المرافق اليمنية، المدنية والعسكرية. والحال أنّ الوتيرة الحالية للتصعيد ليست منخفضة الحدّة، حتى يُصار إلى احتواء الصراع عبر الوصول إلى تسوية معيّنة مع “أنصار الله”. إذ يبدو الأمر كأنه قد بدأ ينفصل عن جذر التصعيد في غزّة، ليشكّل مساراً مستقلاً، تقف فيه الحركة اليمنية ليس في مواجهة إسرائيل التي بدأ الإسناد ضدّها فحسب، بل في مواجهة “الغرب الجماعي” بمجمله، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، الذي يستعدّ حالياً لتشكيل مهمّة بحرية خاصّة به على غرار التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لحماية “حرية الملاحة” في البحر الأحمر.
خاتمة
التهافُت الغربي، بهذا المعنى، على تشكيل تحالفات “لحماية حرية الملاحة” في البحر الأحمر يؤكّد الجدوى من العمليات البحرية التي بدأ الحوثيون بتنفيذها منذ نهاية العام الفائت ضدّ السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر. على أنّ الصراع هناك، بعد أشهرٍ من اندلاعِه، ومع كلّ التعقيدات التي طرأت عليه بعد الانتقال إلى مرحلة ضرب الحصار الاقتصادي، تجاوَزَ المعطى الجيوسياسي المباشر، على أهميّته القصوى في هذه المرحلة من الصراع مع إسرائيل والغرب، إلى تشكيل حالةٍ في الاقتصاد السياسي للحرب، لم يعد الغرب قادراً على تجاوُزِها بسهولة. التأثير غير المباشر الذي طاول سلاسل التوريد العالمية عبر رفع تكلفة الشحن والتأمين على السفن عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وصولاً إلى قناة السويس، جَعَل الغرب يتحرّك بسرعة، ليس فقط لإنشاء تحالفات، أميركية وأوروبية، تحت شعار حماية حرية الملاحة، بل أيضاً لاستشعار هذه القوى الغربية مجتمعةً أنّ ثمّة متغيّراً كبيراً في قدرتها على حماية تأمين تدفّقات السلع وحتى الخدمات، عبر البحار، سواء من المواد الخام أو المصنّعة.
تهافُت الغرب على تشكيل تحالفات “لحماية حرية الملاحة” يؤكّد جدوى عمليات الحوثيين، ونقل الصراع إلى تشكيل حالةٍ في الاقتصاد السياسي للحرب لم يقدر الغرب على تجاوُزِها
فُقدان القدرة على التأمين العسكري في البحار والمضائق، التي تجري عبرها معظم عمليات التجارة الدولية هو بمثابة إخلال بوظيفة رئيسية من وظائف القوّة العسكرية للرأسماليات الغربية. وهو ما كان يحصل سابقاً، على نطاق أضيق في الصومال، مع العمليات التي كان يقوم بها القراصنة هناك، باستمرار، ضدّ السفن التجارية العابرة للمحيط الهندي والبحر الأحمر. قدرة الغرب حينها على احتواء هذا الشكل من الإخلال بتدفّق السلع، عبر البحر، كانت أكبر، لأنّ عمليات القرصنة لم تكن تنطوي على بعدٍ جيوسياسيّ, ولأنّ المجموعات التي كانت تقوم بهذه الأعمال لم تكن تمتلك قوّة بحريّة وازنة، كما يفعل أنصار الله حالياً، تستطيع بها تشكيل تهديد جدّي ومستدام على العمليات التجارية هناك. توافُر هذين العاملين الاستراتيجيين حالياً، بخلاف المرحلة السابقة، لا يُضفي على المواجهة في البحر الأحمر بعداً جديداً فحسب، بل يجعلها أكثرَ تكافؤاً وندّية مع كلّ الاختلال الحاصل فيها لجهة التسليح الثقيل وحتى النووي لمصلحة القوّتين الغربيتين، اللتين تقودان العدوان الحالي على اليمن.
وهو ملمح يتقاطع مع شكل المواجهة الذي تقوده المقاومة الفلسطينية في غزّة ضدّ إسرائيل، حيث عدم التناظر في التسليح والعديد والقوّة النارية، غالباً ما يتيح لنمط القتال “الأغواري”، أرجحيّة معينة في حال كان تسليح هذه المجموعات وتدريبها على القتال قادراً على ردع القوة الإمبريالية المدجّجة بالتكنولوجيا العسكرية الفائقة الدقّة. وهذه لغاية الآن، هي حال معظم الجبهات التي تتقاطع لقيادة المواجهة في المعركة الحالية ضد إسرائيل، والإمبرياليتين: الأميركية والبريطانية.